سورة التوبة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{براءة} أي عظيمة، ثم وصفها بقوله: {من} أي حاصلة واصلة من {الله} أي المحيط بصفات الكمال، فهو العالم بمن يستحق الولاية ومن يستحق البراءة {ورسوله} أي المتابع لأمره لعلمه به.
ولما كانوا قد توقفوا في الحديبية كلهم أو كثير منهم تارة في نفس العهد وتارة في التأخر عن الأمر بالحلق، ثم تابعوا في كل منهما، وكان الكفار بمحل البعد عن كل خير، أشار إلى ذلك بأداة الغاية، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله إشارة إلى أنه لا يخالفه أصلاً، وأسندت المعاهدة إليهم إشارة إلى ذلك التوقف تحذيراً من أن يقع مثله، فقال مخبراً عن النبذ الموصوف: {إلى الذين عاهدتم} أي أوقعتم العهد بينكم وبينهم {من المشركين} أي وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع الانتظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وأما الله ورسوله فغنيان عن ذلك، أما الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فبالذي اختاره للرسالة لأنه ما فعل ذلك به إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب، وعلم أن ذلك فيمن نقض أو قارب من قوله بعد {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} الآية؛ قال البغوي: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم} [الأنفال: 58] انتهى. وذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ولعله أطلق هنا ولم يقيد ممن خيف نقضه ليكون ذلك أول السورة مؤذناً بأن الخيانة وهم بالنقض شأن أكثرهم ولا سيما مشركو قريش، وهم- لكون قريش رؤوس الناس والناس تبع لهم في الخير والشر- يستحقون أن يعبر عنهم بما يفهم الكل ومبنى هذه السورة على البراءة من المشركين والموالاة للمؤمنين الدال على إيمانهم طاعة الله بالصلاة والزكاة والجهاد لمن أمر بالبراءة منه قل أو كثر قرب أو بعد في المنشط والمكره والعسر واليسر.
ولما كان ظاهر الحال وقت تكامل نزولها- وهو شوال أو ذو العقدة أو ذو الحجة سنة تسع بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك- أن الحرب قد وضعت أوزارها وأطفئت نارهم ببسط الإسلام في الخاص والعام، وما بين اليمن والشام، وانتشار ألويته وأعلامه، وتأيد رئيسه وإمامه بقهر جيوش الكفار، وقصد الناس له بالاتباع من جميع الأمصار، أكد أمر الجهاد ومصادمة الأنداد في هذه السورة تأكيداً لم يؤكد في غيرها؛ ذكر الواقدي في أواخر غزوة تبوك كلاماً ثم قال: قالو: وقدم رسول الله صلى لله عليه وسلم المدينة- يعني من غزوة تبوك- في رمضان سنة تسع ثم قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فجعل القوي منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: «لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال» وإنما قلت: إن تكامل نزولها كان في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة لأن البغوي نقل عن الزهري أن أولها نزل في شوال، وقال ابن إسحاق- ونقله عنه البيهقي في دلائل النبوة-: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من تبوك بقية شهر رمضان وشوالاً وذا القعدة ثم بعث أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج في سنة تسع ليقيم للمؤمنين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم- وأسند البيهقي في دلائله إلى عروة قال: فلما أنشأ الناس الحج تمام سنة تسع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الناس وكتب له سنن الحج- انتهى. فخرج أبو بكر والمؤمنون رضي الله عنهم ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينهم وبينه أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد في الشهر الحرام؛ وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك؛ ونقل أبو محمد البستي عنه أنه قال: فكانت هذه المدة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العرب أنه لا يصد أحد عن البيت ولا يتعرض لحاج ولا معتمر، ولا يقاتل في الشهر الحرام؛ وكان أماناً مستفيضاً من بعضهم لبعض على غير مدة معلومة؛ رجُع إلى ما رأيته أنا في سيرته: وكانت بين ذلك عهود بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون؛ ثم قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: «لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج قيل له: يارسول الله! لو بعثت بها إلى أبي بكر! فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يجح بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته» فهذا فيه أنها نزلت بعد سفر أبي بكر رضي الله عنه، وإنما قيدت أنا بتكامل نزولها لأنه ورد أن الذي في النقض فبعث به علياً رضي الله عنه إنما هو عشر آيات أو سبع، وفي بعض الروايات التصريح بنزولها قبل سفر أبي بكر رضي الله عنه، ففي زيادات مسند الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر رضي الله عنه فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدرك أبا بكر، فحيث ما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم- فذكره، وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع: أنزل فيّ شيء؟ قال: لا، ولكن جبريل عليه السلام جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» ونقل البغوي عن ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم بعث مع أبي بكر بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده علياً على ناقته الغضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة. وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! أنزل في شأني شيء؟ قال: «لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا الأمر إلا رجل من أهلي» فتبين أن الأول من إطلاق الكل على الجزء لا سيما وهو الذي فيه البراءة، وما سميت السورة براءة إلا به؛ وأن المعنى: لا يؤدي عني في العهود، لا مطلقاً، فقد أرسل رسلاً للأداء عنه من غير أهل بيته؛ وقال المهدوي في تفسير {فسيحوا في الأرض}: وروي أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروج أبي بكر بالناس ليحج بهم سنة تسع، فبعث بها النبي صلى الله صلى عليه وسلم علياً رضي الله عنه ليتلوها على الناس بالموضع الذي يجتمع فيه الفريقان وهو منى، وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فنادى عليّ وأعانه أبو هريرة وغيره رضي الله عنهم، وكان على مكة حينئذ عتاب بن أسيد رضي الله عنه، استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو عام ثمان، وكان حج عتاب وأبي بكر سنة تسع في ذي العقدة- كذا قال وسيأتي بيان بطلانه، وتقدم خلافه عن ابن إسحاق في دلائل النبوة؛ وقال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره: حدثنا قتيبة عن الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من تبوك فأراد الحج فقال: إنه يحضر البيت المشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما، فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها كلها وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر- يعني اشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، فآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا، فآمن الناس أجمعون.
وفي سيرة ابن إسحاق: حدثنا يونس- يعني ابن بكير- عن أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} قال: عشرين من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلى السيف أو الإسلام؛ وقال ابن هشام: حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجل الناس أربعة اشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم؛ وللترمذي عن زيد بن أثيع قال: سألت علياً رضي الله عنه: بأيّ شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر. ونقل ابن سيد الناس عن ابن عائذ انه لما ضرب للمشركين هذا الأجل قالوا: بل الآن لا نبتغي تلك المدة، نبرأ منك ومن ابن عمك إلا بالضرب والطعن؛ فحج الناس عامهم ذلك، فلما رجعوا رغب الله المشركين فدخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً. وصدق الله ورسوله فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان. وقد وردت نصوص وظواهر في كثير من سورة براءة أنه نزل قبل الرجوع عن تبوك أو قبل الاعتذار، فمن النصوص قوله تعالى: {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} وقوله: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً} الآيات، {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم} إلى أن قال: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} [التوبة: 94] وأما الظواهر فإن الواقدي قال في سيرته فأنزل من القرآن في غزوة تيوك، ثم ذكر اكثر سورة براءة وقال هو وغيره من أصحاب السير: «وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك منهم وديعة بن ثابت فذكر القصة التي فيها أن بعضهم قال ترهيباً للمؤمنين: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، وقال كل منهم شيئاً إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا- إلى أن قال: إن بعضهم قال: إنما كنا نخوض ونلعب! فأنزل الله فيه {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب- إلى قوله- بأنهم كانوا مجرمين} ثم قال: وجاء الجلاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف ما قال من ذلك شيئاً، وكان قد قال: إن كان محمد صادقاً فنحن شر من الحمير، فأنزل الله عز وجل فيه {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} إلى آخرها، فاعترف الجلاس حينئذ وتاب وحسنت توبته»، وذكر مسجد الضرار وأن أهله كانوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو متجهز إلى تبوك أن يصلي لهم فيه فاعتذر إليهم بشغله بالسفر ووعدهم أن يصلي فيه إذا رجع، فلما نزل صلى الله عليه وسلم بذي أوان- قال ابن هشام: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار- أتاه خبره وخبر أهله من السماء، فدعا اثنين من أصحابه فأمرهما به فأحرقاه، وتفرق أهله ونزل فيه من القرآن ما نزل {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً} إلى آخر القصة؛ قال الواقدي: وكان عاصم ابن عدي يقول: كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل وثعلبة بن حاطب قائمين على المسجد الضرار- إلى أن قال: فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه وذم أهله {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً} [التوبة: 107]- إلى آخرها، ومن ذلك تسميتها بالفاضحة، فلولا نزولها قبل معرفة أخبارهم لم تكن فاضحة، وهي في الظاهر للمعاهدين وفي الباطن مشيرة إلى أهل الردة وأن لا يقبل منهم إيمان ما لم يجمعوا بين الصلاة والزكاة كما فهم أبو بكر رضي الله عنه، وأقيمت على ذلك قرائن منها تكرير الجمع بين الصلاة والزكاة في سياق الإيمان تكريراً لم يكن في غيرها من السور، فهي من أعلام النبوة؛ وروى أبو محمد إسحاق بن إبراهيم القاضي البستي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهماً: عشر منها في براءة، وعشر في الأحزاب، وعشر في المؤمنين وسأل سائل.
ولما أعلمهم سبحانه بأنه رد إليهم عهدهم، وكانوا مختلطين مع أهل الإسلام، جعل لهم مخلصاً إن آثروا البقاء على الشرك مع إعلامهم بأنه لا خلاص لهم لأنهم في قبضته، فقال مخاطباً لهم ولكل مشرك مسبباً عن البراءة: {فسيحوا} والسياحة: الاتساع في السير والبعد عن المدن والعمارة مع الإقلال من الطعام، والشراب، ولذلك يقال للصائم: سائح: والمراد هنا مطلق السير.
ولما كانت السياحة تطلق على غيره، حقق المعنى بقوله: {في الأرض} أي في أيّ جهة شئتم {أربعة أشهر} أي من أيام الحج، فيكون آخرها عاشر شهر ربيع الآخر، تأمنون فيها أمناً لا نعرض لكم بسوء، بل تذهبون فيها حيث شئتم، أو ترمون حصونكم وتهيئون سلاحكم وتلمون شعثكم لا نغدركم، لأن ديننا مبني على المحاسن، ولولا أن الأمر يتعلق بنفوسنا ما نبذنا عهدكم ولا نقضنا عقدكم، ولكن الخطر في النفس وقد ظهرت منكم أمارات الغدر ولوائح الشر وعن أيّ نفس بعد نفسي أقاتل فإذا نقضت الأربعة الشهر فتهيؤوا لقتالنا وتدرعوا لنزالنا.
ولما كان الإسلام قد ظهر بعد أن كان خفياً، وقوي بعد أن كان ضعيفاً، افتتح وعظهم بالكلمة التي تقال أولاً لمن يراد تقريع سمعه وإيقاظ قلبه وتنبيهه على أن ما بعدها أمر مهم ينبغي مزيد الاعتناء به فقال: {واعلموا أنكم} أي أيها الكفرة وإن كثرتم {غير معجزي الله} لأن علمه محيط بكل شيء فهو قادر على كل ممكن {وأن الله} أي لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام {مخزي الكافرين} أي كلهم منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة لأن قوله قد سبق بذلك، ولا يبدل القول لديه، والإخزاء: الإذلال مع إظهار الفضيحة والعار-. وأظهر الوصف موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم به؛ ولعل الالتفات إلى الخطاب إشارة إلى أن من ترك أمر الله حدباً على قريب أو عشير فهو منهم، وقد برئت منه الذمة، فلينج بنفسه ولا نجاء له، أو يكون لا ستعطاف الكفار تلذيذ الخطاب وترهيبهم بزواجر العقاب.


ولما أنزل البراءة، أمر بالإعلام بها في المجمع الأعظم ليقطع الحجج، فقال عاطفاً ظهرة الجملة إلى مضمونها: الإخبار بوجوب الإعلام بما ثبت بالجملة الأولى المعطوفة عليها من البراءة: {وأذان} أي وهذا إعلام وإعلان واقع وواصل {من الله} أي المحيط بجميع صفات العظمة {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته، فلا يوجهه إلى شيء إلا أعلاه عليه؛ ولما كان المقصود الإبلاغ الذي هو وظيفة الرسول، عداه بحرف الانتهاء فقال: {إلى الناس} أي كلهم من أهل البراءة وغيرهم {يوم الحج الأكبر} قيده لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
ولما كان كأنه قيل: ماهذا الإعلام؟ قال مفسراً له مصرحاً بما هو المقصود لئلا يقع فيه نوع لبس حاذفاً الصلة إعلاماً بأن هذا مستأنف على تقدير سؤال سائل، لا معمول لأذان: {أن الله} أي الذي له الغنى المطلق والقوة الباهرة {بريء من المشركين} أي الذين لا عهد لهم خاص فلا مانع من قتالهم، قيل: والذين وقعت البراءة منهم صنفان: أحدهما كانت مدته دون أربعة أشهر فرفع إليها، والآخر مدته بغير حد فقصر عليها، ومن لم يكن له عهد فهو أولى، ومن كان عهده محدوداً بأكثر من أربعة أشهر ولم يحدث شراً أمر بإتمام عهده إلى مدته {ورسوله} أي بريء منهم، فهو موفوع عطفاً على المنوي في {بريء} أو على محل {أن} المكسورة واسمها عند من كسرها، وقرئ بالنصب عطفاً على اسم {أن} أو لأن الواو بمعنى مع، وبالجر على الجوار، وقيل: على القسم- قال في الكشاف، قال: ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه فحكى الأعرابي قراءته فعندما أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية، وروى الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في مقدمة كتاب الوقف والابتداء بسنده عن ابن أبي ملكية قال: قدم أعرابي في زمان عمر رضي الله عنه فقال: من يقرئني مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل براءة فقال: {أن الله بريء من المشركين ورسوله} بالجر، فقال: أوقد بريء الله من رسوله؟ إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي فدعاه- يعني فسأله فأخبره- فقال عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي! قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال {أن الله بريء من المشركين ورسولُه} فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة.
وأمر أبا الأسود فوضع النحو، ونحو ذلك في الاهتمام بشأن العربية ما حكاه الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة في كتابه في الأنساب في ترجمة أبي الأسود الدؤلي بسنده إليه أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فرأيته مطرقاً مفكراً فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً، فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية، فقلت له: إن فعلت هذا بقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد أيام فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، الفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل: ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر، قال أبو الأسود الدؤلي: فجمعت أشياء فعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم أذكر لكن، فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها فيها، فقال بل هي منها فزدها فيها، وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في طبقات النحويين: وقال أبو العباس محمد بن يزيد: سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه، فقال: تلقنته من علي بن أبي طالب، وفي حديث آخر: ألقى إليّ أصولاً احتذيت عليها؛ وفي مختصر طباتهم للحافظ محمد بن عمران المرزباني: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد رسم لأبي الأسود الدؤلي حروفاً يعلمها الناس لما فسدت ألسنتهم فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضناً به بعد علي رضي الله عنه، فلما كان زياد وجه إليه أن عمل شيئاً تكون فيه إماماً وينتفع به الناس فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس، فدافع بذلك حتى مر يوماً بكلإ البصرة وإذا قارئ يقرأ {أن الله بريء من المشركين ورسوله} وحتى سمع رجلاً قال: سقطت عصاتي، فقال: لا يحل لي بعد هذا أن أترك الناس! فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير فليبتغ لي كاتباً حصيفاً ذكياً يعقل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر من ثقيف؛ وقال ابن الأنباري في كتاب الوقف: حدثني أبي قال: حدثنا أبو عكرمه قال: قال العتبي: كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه، فلما قدم عليه كلمه فوجده يلحن، فرده إلى زياد وكتب إليه كتاباً يلومه فيه ويقول: أمثل عبيد الله يضيع؟ فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال: يا أبا الأسود! إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويعربون به كتاب الله، فأبى ذلك أبو الأسود وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً فقال له: اقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن وتعمد اللحن فيه، ففعل ذلك.
فلما مر به أبو الأسود رفع الرجل صوته يقرأ {أن الله بريء من المشركين ورسولِه} فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم رجع من فوره إلى زياد فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليّ ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتيّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك- انتهى. ويوم الحج المذكور هنا للجنس، أي في جميع أيام الحج- قاله سفيان الثوري- كيوم صفين والجمل وبعاث يراد به الحين والزمان الذي كان فيه ذلك، ولذلك نادى علي رضى الله عنه بنفسه ومن ندبه لذلك في جميع تلك الأيام، وقال أبو حيان: الظاهر أنه يوم واحد فقال عمر رضي الله عنه وجماعة: هو يوم عرفة، وروي مرفوعاً الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو موسى رضي الله عنه وجماعة: هو يوم النحر، وقيل: أيام الحج كلها- قاله سفيان بن عيينة قال ابن عطية: والذي تظاهرت به الأحاديث أن علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها أيضاً يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره رضي الله عنهم ويتبعوا ايضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره؛ وبهذا يترجح قول سفيان- انتهى. وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه أن يوم النحر، وقال في تفسيره أيضاً: أخبرنا معمر عن الحسن قال: إنما سمي الحج الأكبر لأنه حج أبو بكر رضي الله عنه الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون والمشركون، ووافق أيضاً ذلك عيد اليهود والنصارى-.
ولما أعلم سبحانه بالبراءة عنها، سبب عنها مرغباً مرهباً قوله التفاتاً إلى الخطاب: {فإن تبتم} أي عن الكفر والغدر {فهو} أي ذلك الأمر العظيم وهو المتاب {خير لكم} أي لأنكم تفوزون في الوفاء بالأمان في الدنيا، وفي الإسلام بالسلامة في الدارين.
ولما كانت التوبة محبوبة بالطبع لما لها من النفع قال: {وإن توليتم} أي كلفتم أنفسكم خلاف ما يشتهي من التوبة موافقة للفطرة الأولى، وأصررتهم على الكفر والغدر اتباعاً للهوى المكتسب من خباثة الجبلة ورداءة الأخلاط التي قعدت بالروح عن أوجها الأول إلى الحضيض الأسفل {فاعلموا} أي علماً لا شبهة فيه {أنكم غير معجزي الله} أي لأن له صفات الكمال من الجلال والجمال، والالتفات هنا مثله في {فسيحوا} والإشارة به إلى ما ذكر في ذلك.
ولما واجههم بالتهديد، أعرض عنهم وجه الخطاب تحقيراً لهم مخاطباً لأعلى خلقه مبشراً له في أسلوب التهكم بهم، فقال عاطفاً على ما تقديره: فبشر الغادرين بالخدلان، أو فبشر التائبين بنعيم مقيم: {وبشر الذين كفروا} أي أوقعوا هذا الوصف {بعذاب أليم} أي في الدنيا والآخرة أو فيهما.
ولما أعلمهم بالبراءة وبالوقت الذي يؤذن بها فيه، وكان معنى البراءة منهم أنه لا عهد لهم، استثنى بعض المعاهدين فقال: {إلا الذين عاهدتم} أي أوقعتم بينكم وبينهم عهداً {من المشركين ثم} أي بعد طول المدة اتصفوا بأنهم {لم ينقصوكم شيئاً} أي من الأمارات الدالة على الوفاء في أنفسهم كما نقض بنو الديل من بني بكر في قتالهم لخزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم {ولم يظاهروا} أي يعاونوا معاونة تظهر {عليكم أحداً} أي من أعدائكم كما ظاهرت قريش حلفاءهم من بني الدليل على حلفائكم من خزاعة {فأتموا} واشار إلى بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال: {إليهم عهدهم إلى مدتهم} أي وإن طالت؛ قال البغوي: وهم بنو ضمرة حي من كنانة، وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا؛ وقال النحاس: ويقال: إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة؛ وقال أبو محمد البستي: حدثنا قتيبة قال: ثنا الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: كان بين بني مدلج وخزاعة عهد، وهم الذين قال الله {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم}.
ولما كانت محافظتهم على عهدهم من أفراد التقوى، وكان الأمر بالإحسان إلى شخص من أفعال المحب، قال تعالى معللاً: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المتقين} أي يفعل بهم وبكم افعال المحب، فهو قول حاث للكل على التقوى، وكل ينزله على ما يفهم، فهو من الإعجاز الباهر.
ولما قرر أمر البراءة إثباتاً ونفياً، أمر بما يصنع بعد ما ضربه لهم من الأجل فقال: {فإذا} أي فتسبب عن ذلك أنه إذا {انسلخ} أي انقضى وانجرد وخرج ومضى {الأشهر الحرم} أي التي حرمت عليكم فيها قتالهم وضربتها أجلاً لسياحتهم، والتعريف فيها مثله {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 15-16] {فاقتلوا المشركين} أي الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً؛ قال البغوي: قال الحسن بن الفضل: هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء- انتهى.
ومعنى {حيث وجدتموهم} أي في حل أو حرم في شهر حرام أو غيره {وخذوهم} أي بالأسر {واحصروهم} أي بالحبس عن إتيان المسجد والتصرف في بلاد الإسلام وكل مقصد {واقعدوا لهم} أي لأجلهم خاصة فإن ذلك من أفضل العبادات {كل مرصد} أي ارصدوهم وخذوهم بكل طريق يمكن ولو على غرة أو اغتيالاً من غير دعوة، وانتصابه على الظرف لأن معنى اقعدوا لهم: ارصدوهم، ومتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة في فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه فكذلك إلى الظرف- ذكره أبو حيان، والتعبير بالقعود للارشاد إلى التأني، وفي الترصد والاستقرار والتمكن وإيصال الفعل إلى الظرف إشارة إلى أن يشغلوا في الترصد كل جزء من أجزاء كل مرصد إن قدروا على ذلك بخلاف ما لو عبر ب في فإنه إنما يدل على شغل كل مرصد الصادق بالكون في موضع واحد منه أيّ موضع كان.
ولما أمر تعالى بالتضييق عليهم، بين ما يوجب الكف عنهم فقال: {فإن تابوا} أي عن الكفر {وأقاموا} أي وصدقوا دعواهم التوبة بالبينه العادلة بأن أقاموا {الصلاة وآتوا الزكاة} أي فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق خضوعاً لله تعالى وتركاً للفساد ومباشرة للصلاح على الوجه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد هذان الشاهدان العدلان {فخلوا} أي بسبب ذلك {سبيلهم} أي بأن لا تعرضوا لشيء مما تقدم لأن الله يقبل ذلك منهم ويغفر لهم ما سلف {إن} أي لأن {الله} أي الذي له الجلال والإكرام {غفور رحيم} أي بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها والاتباع له بالإكرام.


ولما سد عليهم طريق مخالطتهم ما لم يتصفوا بالتوبة المدلول عليها بالشهيدين المذكورين سداً مطلقاً، وفتحه عند الاتصاف بها فتحاً مطلقاً، عطف على ذلك طريقاً آخر وسطاً مقيداً فقال: {وإن أحد من المشركين} أي الذين أمرناكم بقتالهم {استجارك} أي طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدة السياحة {فأجره} أي فآمنه ودافع عنه من يقصده بسوء {حتى يسمع كلام الله} أي الملك الأعظم بسماع التلاوة الدالة عليه، فيعلم بذلك ما يدعو إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس كلام الخلق. ولما ذكر إجارته، وكان له بعدها توبة وإصرار. وكان حال التائب قد ذكر، بين ما يفعل به إن أصر فقال: {ثم أبلغه} أي إن أراد الانصراف ولم يسلم {مأمنه} أي الموضع الذي يأمن فيه ثم قاتله بعد بلوغه المأمن إن شئت من غير غدر ولا خيانه؛ قال الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة؛ ثم علل ذلك بما يبين غدرهم بقوله: {ذلك بأنهم} أي الأمر بالإجارة للغرض المذكور بسبب أنهم {قوم لا يعلمون} أي لا علم لهم لأنه لا عهد لهم بنبوة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم.
ولما كان الأمر بالنبذ مظنة لأن يعجب منه، عجب فقال: فمن يتعجب منه؟ وأنكر عليه فقال: {كيف يكون للمشركين} أي أهل العراقة في الشرك الذين توجب عراقتهم فيه ومحبتهم لظهوره نكثَ العهد الذي لا أقبح منه عند العرب ولا أشنع {عهد عند الله} أي المستجمع لصفات الكمال، فهو لا يحب النقض من أوليائه فكيف به من أعدائه {وعند رسوله} أي الذي هو أكمل الخلق وأوفاهم وأحفظهم للعهود وأرعاهم فهم أضداده فأعمالهم أضداد أعماله، وقد بدا منهم الغدر.
ولما كان استفهام الإنكار في معنى النفي، صح الاستثناء منه، فكأنه قيل: لا يكون للمشركين عهد {إلا الذين عاهدتم} أي منهم كما تقدم {عند المسجد الحرام} أي الحرم يوم الحديبية، وهذا مما يدل على أن الاستثناء المتقدم من {الذين} في قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}؛ قال البغوي؛ قال السدي والكلبي وابن اسحاق: هم من قبائل بكر: بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية، فلم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض، ولما استثنى، بين حكم المستثني فقال: {فما استقاموا لكم} أي ركبوا الطريق الأقوم في الوفاء بعهدهم {فاستقيموا لهم} والقول في {إن الله} أي المحيط بالجلال والجمال {يحب المتقين} كما سبق.
ولما أنكر سبحانه ان يكون للمشركين غير المستثنين عهد، بين السبب الموجب للانكار مكرراً أداة الإنكار تأكيداً للمعنى فقال: {كيف} أي يكون لهم عهد ثابت {وإن} أي والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة فهم إن {يظهروا عليكم} أي إن يعل أمر لهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق {لا يرقبوا} أي لا ينظروا ويرعوا {فيكم} أي في أذاكم بكل جليل وحقير {إلاًّ} أي قرابة محققة {ولا ذمة} أي عهداً، يعني أن الأمر المبيح للنبذ خوف الخيانة، وعلام الغيوب يخبركم أنهم في غاية الخيانة لكم، والإل هذا: القرابة- وهو قول ابن عباس، والمادة تدور على الألة وهي حربة في نصلها عرض، ويلزمها الصفاء والرقة والبريق، ويشبه به الإسراع في العدو، والثبات في نفسها، ومنه القرابة والعهد والتغير في وصفها، ومنه تغير رائحة الإناء وفساد الأسنان والصوت، ومنه الأنين والجؤار في الدعاء مع البكاء وخرير الماء والطعن والقهر-، ومنه: إن هذا- أي كلام مسيلمة- ما يخرخ من إل، أي من ربوبية، وفي إل الله، أي قدرته وإلهيته.
ولما كان ذلك مظنة لأن يقال: قد أكدوا لنا الأيمان وأوثقوا العهود، ولم يدعوا باباً من أبواب الاستعطاف، قال معللاً لما مضى مجيباً لمن استبعده: {يرضونكم} وعبر بأقصى ما يمكن الكلام به من القلوب تحقيقاً لأنهم ليس في قلوبهم شيء منه فقال: {بأفواههم} أي بذلك التأكيد، وصرح بالمقصود بقوله: {وتأبى قلوبهم} أي العمل بما أبدته ألسنتهم، وقليل منهم من يحمله الخوف ونحوه على الثبات أو يرجع عن الفسق ويؤمن {وأكثرهم فاسقون} أي راسخو الأقدام في الفسق خارجون- لمخالفة الفعل للقول- عما تريدونه، وإذا نقض الأكثر اضطر الأقل إلى موافقتهم.
ولما دام ما ترى من كشف سرائرهم، شرع سبحانه يقيم لهم الدليل على فسقهم وخيانتهم بتذكيرهم ما بدا من بعضهم من النقض بعد أن أثبت فيما مضى أنهم شرع واحد بعضهم أولياء بعض، وفيما يأتي أنهم بعضهم من بعض، فقال معبراً بما يفيد أنهم تمكنوا من ضد الإيمان تمكناً صار به كأنه في حوزتهم: {اشتروا} أي لجوا في أهويتهم بعد قيام الدليل الذي لا يشكون فيه فأخذوا {بآيات الله} أي الذي لا شيء مثله في جلال ولا جمال على ما لها من العظم في أنفسها وبإضافتها إليه {ثمناً قليلاً} من أعراض الدنيا فرضوا بها مع مصاحبة الكفر، وذلك أن أبا سفيان أطعمهم أكلة فنقضوا بها عهودهم {فصدوا} أي فسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا {عن سبيله} أي من يريد السير عليه ومنعوا من الدخول في الدين أنفسهم ومن قدروا على منعه.
ولما دل على ما أخبر به من فساد قلوبهم، استأنف بيان ما استحقوه من عظيم الذم بقوله معجباً منهم: {إنهم ساء ما} وبين عراقتهم في القبائح وأنها في جبلتهم بذكر الكون فقال: {كانوا يعملون} أي يجددون عمله في كل وقت، وكأنه سبحانه يشير بهذا إلى ما فعلت عضل والقارة بعاصم بن ثابت وخبيب بن عدي، ذكر ابن إسحاق في السيرة عن عاصم بن عمر رضي الله عنه- والبخاري في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه-، كل يزيد على صاحبه وقد جمعت بين حديثيهما أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرؤوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام فبعث معهم نفراً ستة- وقال البخاري: عشرة- وأمر عليهم عاصم بن ثابت فخرج معهم، حتى إذا كانوا بالرجيع ماء لهذيل غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلما أتوهم أخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكن عهد الله وميثاقه أن لا نقتل منكم أحداً، فأما عاصم فلم يقبل وقاتل حتى قتل هو ناس من أصحابه، ونزل منهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال رجل منهم: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة- يريد القتلى، فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه؛ فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة فقتلوهما.
وقصة العرنيين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظهروا الإسلام ثم خرجوا إلى لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا الراعي واستاقوا اللقاح بعد ما رأوا من الآيات، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقتلهم؛ وفي تاريخ ابن الفرات عن القتبي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن عوسجة البجلي إلى بني حارثة بن عمرو بن قرط بكتاب فرقعوا دلوهم بالكتاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لهم! أذهب الله عقولهم، فهم أهل رعدة وكلام مختلط؛ ولما خرج أهل مكة بعد أن عاملهم صلى الله عليه وسلم بغاية الإحسان أعتقهم وعفا عنهم بعد تلك الحروب والأذى في المبالغة في النكايات التي لا يعفو عن مثلها إلا الأنبياء، خرجوا معه إلى حنين غير مريدين لنصره ولا محبين لعلو أمره، بل هم الذين انهزموا بالناس- كما نقله البغوي عن قتادة؛ وقال أبو حيان ويقال: إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة-انتهى. وقال الواقدي: وخرج رجال مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتغادر منهم أحد على غير دين ركباناً ومشاة، ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة بمحمد وأصحابه، وقال هو وغيره: فلما كانت الهزيمة حيث كانت والدائرة على المسلمين تكلم قوم بما في أنفسهم من الكفر والضغن والغش، وذكروا أنه عزم ناس منهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله منعه منهم.
هذا بعض ما غدر فيه كفار العرب، وأما اليهود فكلهم نقض: بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة ثم أهل خيبر، حتى كان ذلك سبب إخراجهم منها وإجلائهم إلى بلاد الشام، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أنهم قد تبين لهم مثل الصبح جميعاً ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يرجعوا لمجرد أهوائهم كانوا قد اشتروا بذلك ثمناً قليلاً، وهو التمتع بما هم فيه مدة حياتهم على ما صاروا إليه من سفول الكلمة وإدبار الأمر، فمن قاده هواه إلى ترك السعادة العظمى لهذا العرض الزائل اليسير كان غير مأمون على شيء لأنه رهينة داعي الهوى وأمر الشيطان، لأنه أول ما بدأ بنفسه فغدر بها وغشها غير ناظر في مصلحة ولا مفكر في عاقبة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8